نظرية في المعرفة

لا يمكن للمرء أن يكون باحثاً بل متعلماً بحق دون أن يدقق في نظريته المعرفية، ما هو العلم بالنسبة له؟ ويسأل نفسه ما هي المعرفة الحقيقية من الزائفة؟ كيف يستطيع التمييز بينهما؟ كيف يطور معرفته و علمه ؟ ما هي المصادر والمنهجيات والطرق؟

عندما تكون إجابة هذه الأسئلة واضحة لدى المتعلم تصبح عملية التعلم “شفافة” ومنظمة و قابلة لأن تتطور بإرادة الإنسان و ليس بفعل البيئة كما يحدث عندما تكون عملية التعلم “طبيعية” خاضعة للمؤثرات الخارجة عن الإنسان. حال الإنسان بعملية تعلم “شفافة” حال الإنسان الذي يدقق في نظامه الغذائي ويأكل ما يناسبه، بينما ذلك الإنسان بعملية تعلم “طبيعية” يأكل ما يتاح له في بيئته ولايهتم بجهازه الهضمي وصحة جسمه العامة. فالذي لا يهتم بجهازه المعرفي ولا يدقق كيف يأخذ المعلومات من مصادرها وكيف يفهمها وكيف يبني عليها فيعالجها لينتج المعرفة الخاصة به والتي يحملها في عقله وهي بنى تفكيره وقراره وسلوكه بعد ذلك، يترك عقله و أفكاره وقراره عرضة لتأثيرات بيئته بدل أن يكون فاعلاً في تكوينها ليكون الإنسان الذي يرتضيه.

كتب البروفيسور أتشكغينتش (2000) نظريته في المعرفة والتي اعتمد فيها على دراسات كثيرة تاريخية وفلسفية لآراء مفكرين من الشرق والغرب ومن مختلف العصور، أعرضها هنا باختصار وهي مفصلة في كتابه “التفكير العلمي وأعباؤه” تجدونه في المراجع.

يمكنكم قراءتها من المخطط المرفق أعلاه من اليسار إلى اليمين:

يرى الباحث أن المعرفة تبدأ من الوعي الفيزيائي Physical consciousness ، يتكون الوعي الفيزيائي عن طريق معالجة البيانات التي تعد “مواد أولية”  في العقل، هذه البيانات تنتجها الحواس الخمسة ليتكون في عقل الإنسان إدراك حسي بالتجربة المحسوسة sensible perception  ينتج عنه تجربة يدعوها تجربة خارجية External Experience 

تساهم التجارب الخارجية في تكوين التجربة الداخلية للإنسان Internal Experience و هي مجموع الحدس الحسي sensible intuition ومع القلب أو الفؤاد (مركز المشاعر والروح والعقل ) يتكون الوعي و الوعي الذاتي inner consciousness ، قد يكون الوعي ناتجاً عن تجربة خارجية و قد يكون ناتجاً عن تجربة داخلية كتلك التي نشعر بها عند التفكير بهدوء بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية ونحاول استشعار العالم من حولنا.

إن التجارب الداخلية تبنى على معطيات، إذ أن العقل لا يستطيع التفكير دون أية معطيات أو ما يمكن أن ندعوه مدخلات “حقائق”، والمدخلات هي حقائق حسية physical facts أو وحي revelation والذي يمكن للإنسان أن يدركه ليس فقط إدراك عقلاني rational وإنما خلال تجربة داخلية في نمط تفكير شخصي subjective mode يكون فيه الإنسان مخلصاً في فهم حقيقة العالم ومستشعراً لذله كمتعلم ومنفتحاً على ما يمكن أن يفهم من التنزيل، أي أن العلم بالوحي هو تجربة ذاتية ولكنها أيضا تعتمد على عناصر حسية، فكيف لنا أن نفهم رحمة الخالق، لقد أخبرنا رسول الله أنها أعظم من رحمة الأم بولدها، وبذلك تتكون التجربة الداخلية التي يبنى عليها جزء من معرفة الانسان، تلك المتعلقة بالاعتقاد ليس فقط العقلاني بل “مافوق العقلاني” كما يمكن أن نسميه، هذه الازدواجية في وظيفة القلب التي نراها في قول الله تعالى: “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ “(الحج ، الآية 46) إن هذا النمط الذاتي يشبه الحالة في جلسة اليوغا في سياق آخر ومعطيات أخرى كما أعتقد.

إن التجارب الداخلية والخارجية تشكل مدخلاً للعقل mind الذي يقوم بعملية التفكير، والتي تبدأ  تبدأ بالوعي العقلي mental consciousness الذي يكون بإنشاء أغراض عقلية mental objects وهي تمثيل أو صور للبنى الفاعلة القادمة من التجارب الخارجية والداخلية والعلاقات بينها، قد تكون صوراً لأغراض فيزيائية مثل “قطة” أو صوراً لأفكار مثل “الرحمة” أو معاً “أم ترحم طفلها عندما تضحي بنفسها ليحيا”، إن هذه الأغراض والعلاقات تتخزن في الذاكرة Memory لتكون عناصر التفكير في مرحلة التخيل imagination وفيها يتم تكوين هذه الصور لتبدأ عملية التفكير intellect والتي نعرف وظائفها مثل إيجاد العلاقات السببية والتجريد والتعميم والتصنيف ووضع المسميات وإيجاد علاقات أوسع واستنباط الحجج وفهم الأمور كوحدة أو كمجموع إلخ ولكن لايصل العقل إلى خلاصة إلا بإرادة will لإصدار الأحكام والاستنتاج Inference

يؤكد البرفيسور أن الإنسان لا يقوم بعملية التركيب synthesis لعمل خلاصة أو الوصول إلى معرفة خاصة ، محتوى معرفي يصبح أصيلاً في عقله،  بعد التحليل analysis إلا من خلال إرادة وعن طريق الحدس مستفيداً من العمليات العقلية السابقة.

هذه النظرية في المعرفة تجمع العقلانية rationalism والتي اشتهر بها كانت Kant وابن رشد وأيضاً التنزيلية (الوحي) revelationism والتي اشتهر بها في الغزالي في الحضارة الإسلامية وأولئك الذي يرون أن معرفة الخالق و بداية الخلق يكون من خلال الوحي أو التنزيل والكتب المقدسة.

مراجع:

Acikgenc, A. (2000). Scientific Thought and its Burden.  Istanbul: Fatih University Publications

Acikgenc, A. (1996). Ibn Rushd, Kant, and Transident Rationality: Critical synthesis 

ملاحظة: لست مختصة بهذا الأمر، قرأت المراجع أعلاه مع إلمام عام وحضرت دورة للبرفيسور، وأعجبني جداً فأردت مشاركته ، هناك الكثير من المنشورات للكاتب على الرابط (ملف الباحث على غوغل سكولر)

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: