إطار ديني: كيف نفهم الكوارث الطبيعية؟

عندما تحدث الكوارث الطبيعة، كالزلازل والبراكين، وتلك التي من صنع البشر، كالقصف والتجويع، يشعر الناس الذين ينظرون إلى المأساة من بعيد بالخذلان ويسألون “أين الله؟”، ولكن من يعاين الناس الذين هم في الكوارث عن قرب، يجد أنهم يناجون ربهم، إنه معهم ويسمعهم. تلك المفارقة تجعلنا نفكر، الإيمان ليس فقط أمراً عقلياً، إنه أيضاً هبهٌ أو منحةٌ من الله، إنه يعطيها لأولئك الذين يناجونه، ولكن كيف تناجيه وأنت لا تشعر به؟، إذن ربما سيكون السؤال، كيف أشعر بوجود الله؟

الشعور بوجود الله هو لب الأديان، تلك الأديان السماوية التي نعرف رسلها، من نوح وإبراهيم وموسى وداوود وعيسى ومحمد، عليهم الصلاة والسلام، وتلك التي لا نعرف أنبيائها، والتي يشك كثير من علماء الأديان أن وراءها أنبياءً من عند الله كالهندوسية والبوذية والكونفوشية وقد تغيرت وتبدلت حسب الأوضاع السياسية والاجتماعية وما وصلنا منها على يد أتباعها، إن الأديان تشير في تعاليمها المختلفة إلى علم يحجبه عنا العالم المادي، إلى إله كلي القدرة والعلم، ناجاه الناس في الكوارث وعلموا أن عليهم أمامه مسؤوليات العبادة والخضوع.

وسأستدرك هنا بملحوظةٍ، حيث سأذكر في هذه المقالة القصيرة عدداً من الآيات من القرآن الكريم(الكتاب المقدس عند المسلمين)، و هو كلام الله الذي أوحى به إلى رسوله، محمد، عليه الصلاة والسلام، حرفاً بحرفٍ وكلمةً بكلمةٍ، وجاء ترتيب آياته بتعليماتٍ دقيقةٍ من الرسول الكريم، أو على الأقل، هذا ما يؤمن به المسلمون، أرجوك أن تقرأ هذه الآيات بتمعنٍ وسأضع ملاحظةً عند كل آيةٍ، تشير إلى شرحٍ مبسطٍ بكلامٍ أقرب لما نفهمه اليوم من العربية، إذا كنت تقرأ العربية، وتفهم هذا الكلام فستفهم الآياتِ، أرجوك لا تقفز فوقها لتقرأ ما أكتب، فقراءتها جزء من سياق المقالة، هذا الشرح من كتاب “المختصر في تفسير القرآن الكريم” المعتمد في برنامج مدكر، وما بين قوسين هو من كتاب “المختصر في تفسير القرآن” للدكتور عدنان زرزور، نص الآيات من موقع المصحف الإلكتروني – جامعة الملك سعود.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد عباد الله وعبيده:

يقول الله تعالى في سورة يونس، في الآيات( 22 -25) في القرآن الكريم: “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.(25)” [1]

في هذه الآيات يصف الله تعالى سلوك الناس، الذين يفرحون بالنعيم ويظنون أنهم قادرون عليه، يناجون ربهم إذ تلم بهم المصائب، ويقولون: إذا أنجيتنا من هذا فسنصبح من الشاكرين الطائعين، ثم يعودون إلى لهوهم. لذلك ومن أجل أن نشعر بالله، علينا أن نستشعر بالكوارث وكأننا نعيشها، وليس أن نستمتع بالنعم ونظنها دائمةً، فنقع في غفلة عن الله، إذن الاستشعار بوجود الله حالةٌ عقليةٌ وشعوريةٌ وليست إدراكاً ذهنياً محضاً.

فإذا استشعرنا بوجود الله، سنسأل الله عن كيفية تحقيقه للعدل، إذ دمّر بيت هذا وترك ذاك يتمتع بنعيم الدنيا؟، وإذ نقارن معاصي هؤلاء المنعمين، بأولئك الذين نزلت عليهم مصائب الزلازل والقصف والجوع والبرد، يأتينا جوابان من الله، واحدٌ يخاطب به المؤمنين، وآخر يحدث فيه عن المفسدين، يُذّكر المؤمنين بواجباتهم في العمل في سبيل الله، ويقول لرسول الله وللمؤمنين، لا يغرّنكم تقلب الذين كفروا، يسافرون وينعمون ويتلذذون، إن هذا متاع قليل، مادي زائل، ويذكر أهل الكتاب المخلصين، ثم يذكر المؤمنين بالصبر وأن أجرهم على الله.

وفي هذا يقول الله تعالى في سورة آل عمران في الآيات (196 – 199): ” فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ و لأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًاً قَلِيلًا ًۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.(200)” [2]

يحدث رسول الله محمد، عليه الصلاة والسلام، زوجته عائشة أنه في يوم في المستقبل، سيأتي جيشٌ جرارٌ لٌقصف الكعبة، إنه أشبه بحرق القرآن الذي شهدناه منذ أيام، لكنه أقل بكثير من حيث استعداد الكافرين لهدم الدين، ويأتي عليهم عذاب، يبدو أنه يعم الكرة الأرضية، لعظم ما فعلوا، يخسف الله بهم الأرض من أولهم لآخرهم، فتسأل السيدة عائشة أيخسف الله بهم جميعاً وفيهم المؤمنون والكافرون، الطائعون والفاسقون، وأولئك في الأسواق والمشتغلون بأمور حياتهم؟، فيقول لها رسول الله: “إنهم يبعثون على نياتهم”، كل فيما كان يفعل ولماذا ولأجل من.

وهذا نص الحديث في الأثر: “يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فإذا كانُوا ببَيْداءَ مِنَ الأرْضِ، يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ. قالَتْ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، كيفَ يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ وفيهم أسْواقُهُمْ ومَن ليسَ منهمْ؟، قالَ: يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ علَى نِيَّاتِهِمْ.” الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 2118 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه البخاري (2118)، ومسلم (2884) – موقع الدرر السنة.

يقول الناس: أيحدث الزلزال في تركيا وسوريا، وقد حرقوا القرآن في السويد مثلاً؟ وبعض الناس في بعض البلدان يرتكبون فواحش إحصائياً، أكثر من بلدانٍ أخرى، الفواحش حسب الإطار الديني الأساسي وليس حسب نظام قيم جديد، فكيف يعاقب من هو أقل معصيةً ويترك الأكثر معصيةً؟، نعم ذلك لأن هذا العقاب، جزءٌ من إظهار ضعف الإنسان أمام عوامل الطبيعة، إنه للناس لتعتبر، للبشرية جمعاء، والمستهدفون بالاعتبار هم كل البشرية بمن فيهم الذين مستهم وأولئك الذين لم تمسسهم الكارثة، بل إن أولئك الذين هم في الكارثة سيتلقون دعماً إضافياً لتثبيت قلوبهم، وقد يكون بهم أمراض نفسية أو كبر أوعناد أو جهود، فلا تكون فيهم سكينة الإيمان، والعلم عند الله، حيث يعرف حال كل إنسان، ويحاسبه بعدله ورحمته. إننا نقترب من آخر الزمان، وهذه الكوارث، منها الزلازل والفيضانات وغيرها، ما هي إلا نذرٌ ليعتبر أولوا الأبصار، وليست مثل بلاء الأقوام الأخرى الذين عاقبهم الله لذنبٍ أو فاحشةٍ ارتكبوها. إن هذه الكوارث تسير فوق أسباب ربانية خلقها خالق الكون يكتشفها علماء الطبيعة يوماً بعد يوم، تجري وفق إرادة الله ومشيئته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بعد أن انتهى عصر المعجزات، برسالة الإسلام ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام. ويبقى المؤمن بين الخوف والرجاء، بين خوف من غضب الله ورجاءٍ برحمته، ولعل خطيئة لا يدري لها الإنسان بالاً تطرده من رحمة الله سبعين سنة.

ويقول الله للمؤمنين أيضاً في سورة البقرة، في الآيتان (214- 215) :” أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)” [3]

إن دخول الجنة يقتضي الصبرعلى البلاء والثقة بالله على النجاة، وقد لفتني أن الآية التالية، وهي آية الإنفاق، جاءت بعد هذه الآية التي يحدث فيها الله المؤمنين عن مآسي الحياة الدنيا، ثم يكون السؤال عن الإنفاق إذ أن المؤمنين مأمورون بتخفيف عبء هذه الكوارث عن إخوانهم، ويخفف عنهم الله تعالى، فيقول لهم أن أي خير تقومون به، فالله به عليم.

إننا نحن البشر كائناتٌ خاصةٌ على هذا الكوكب، لنا روحٌ وعقلٌ وإرادةٌ، ولنا شعور بالعدالة، نعرف منذ أن كنا صغاراً ما هو العدل وما هو الظلم، إن شكوكنا في أوقات الكوارث تأتي من هذا الباب، كيف لهذا النظام الكوني البديع أن ينتج أيضاً ظلماً، كيف لرب عادل أبدع وأحسن كل شيئ أن يظلم الناس؟ ولا تكتمل العدالة في هذه الدنيا، إلا بمعرفة أن العدالة المطلقة ستكون يوم القيامة، وأن الذين صبروا وصابروا ورابطوا وعملوا في سبيل الله ، ستكون لهم المثوبة، لأنهم عرفوا الله وعبدوه، أما أولئك الذين اختاروا الكفر والجحود فهذا خيارهم الذي اختاروه. من عجائب خلق الله للإنسان، أن أعطاه حرية الاختيار، ولكنه كمخلوقٍ لم يعطه القدرة على منافسة الخالق، فكيف يزين له عقله أن بمقدوره ذلك؟، وهل هذا حق؟، وهل هذا عدل أن يتساوى الخالق والمخلوق؟، وهل تنتظم الحياة والنظام الكوني إذا تساوى الخالق والمخلوق، والجهل والعلم؟

قال الله عزوجل في كتابه الكريم، في سورة الكهف، الآيات من( 35 حتى 45): ” وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً(45).” [4]

ومنبع الجهل، كما تبين الآية هو ظلم الناس لأنفسهم، وأن نعتقد بأشياءٍ غير صحيحةٍ فقط لأننا نريدها، وهذا ما يدعونه التفكير المتمني wishful-thinking وهو أهم أسباب الفشل في الدنيا، وهو كذلك في الآخرة. ففي هذه الآية يقول صاحب الجنتين: لن تبيد هذه أبداً وأنه عندما يموت سيجد خيراً منها، ما دليله على استدامتها وعلى أنه سيحصل على خير منها؟ لا دليل لديه، إنها فقط رغبته وشعوره بالاستحقاق، ويجادل صاحبه، ثم تأتي الآية وهنالك الولاية، أي يوم القيامة، وفيها ستكون النصرة والتولي لله هو ولي الأمر في هذا اليوم، الملك، المتصرف بالشؤون، المنتصر على العالمين، إنها “لله الحق” وهو سيعطي الناس خير الثواب وخير العقبى، وكأن الثواب والعقبى لمن يفكر بشكل صحيح ولا يتمنى الأماني.

أشكر صديقتي لمى عبد الستار، فقد ساعدتني بالتدقيق اللغوي للمقالة، جزاها الله عني وعنكم خير الجزاء.

الملاحظات:

[1] الله هو الذي يسيركم – أيها الناس في البر على أقدامكم وهو الذي يسيركم في البحر في السفن، حتى إذا كنتم في السفن في البحر، وجرى بهم بريحٍ طيبةٍ، فرح الركاب بتلك الريح الطيبة، فبينما هم في فرحهم جاءتهم ريحٌ قوية الهبوب، وجاءهم موج البحر من كل جهة، وغلب على ظنهم أنهم هالكون، دعوا الله وحده، ولم يشركوا معه غيره قائلين: لئن أنقذتنا من هذه المحنة المهلكة لنكونن من الشاكرين لك على ما أنعمت به علينا. (23) فلما استجاب دعاءهم وأنقذهم من تلك المحنة، إذ هم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي والآثام، أفيقوا – أيها الناس- إنما عاقبة بغيكم السيئة على أنفسكم. فالله لا يضره بغيكم، تتمتعون به في الحياة الدنيا وهي فانيةٌ، ثم إلينا رجوعكم يوم القيامة، فنخبركم بما كنتم تعلمون من المعاصي، ونجازيكم عليها. (24) إنما مثل الحياة الدنيا التي تتمتعون فيها في سرعة انقضائها كمثل مطرٍ اختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس من الحبوب والثمار ومما تأكل الأنعام من الحشيش وغيره، حتى إذا أخذت الأرض لونها الزاهي وتجملت بما تنبته من أنواع النباتات (قيل الزخرف هو الذهب أيضاً)، وظن أهلها أنهم قادرون على حصاد ما أنبتت وقطافه، جاءها قضاؤنا بإهلاكها، فصيرناها محصودةً كأن لم تكن عامرةً بالأشجار والنباتات في عهدٍ قريبٍ، كما بينا لكم حال الدنيا وسرعة انقضائها، نبين الأدلة والبراهين لمن يتفكرون ويعتبرون. (25) والله يدعو جميع الناس إلى جنته التي هي دار السلام، يسلم فيها الناس من المصائب والهموم، ويسلمون من الموت، والله يوفق من يشاء من عباده إلى دين الإسلام الموصل إلى دار السلام هذه.

[2] فأجاب ربهم على دعائهم :بأني لا أضيع ثواب أعمالكم قلت أو كثرت، سواء كان العامل ذكراً أو أنثى، فحكم بعضكم من بعض في الملة واحد، لا يزاد لذكرِ، ولا ينقص لأنثى (المساواة بين الجنسين في الأهلية والتكليف)، فالذين هاجروا في سبيل الله (خرجوا من مكان لا يستطيعون إقامة دينهم فيه إلى آخر يستطيعون) وأخرج الكفار من ديارهم، وأصابهم الأذى بسبب طاعتهم لربهم، وقاتلوا في سبيل الله وقتلوا لتكون كلمة الله هي العليا – لأغفرن لهم سيئاتهم يوم القيامة، و لأتجاوزنّ عنها، ولأدخلنهم جناتٍ تجري الأنهار من تحت قصورها، ثواباً من عند الله، والله عنده الجزاء الحسن الذي لا مثيل له.(196) لا يخدعنك أيها النبي تنقل الكافرين في البلاد، وتمكنهم منها، وسعة تجارتهم وأرزاقهم، فتشعر بالهم والغم من حالهم. (197) فهذه الدنيا متاع قليل لا دوام له، ثم بعد ذلك يكون مصيرهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة: جهنم و بئس الفراش لهم النار. (198) لكن الذين اتقوا ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه لهم جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، ماكثين فيها أبداً، جزاءً معداً لهم من عند الله تعالى، وما أعده الله للصالحين من عباده خير وأفضل مما يتقلب فيه الكفار من ملذات الدنيا. (199) ليس أهل الكتاب سواء، فإن منهم طائفة يؤمنون بالله وما أنزل إليكم بالحق والهدى، ويؤمنون بما أنزل إليهم في كتبهم، لا يفرقون بين رسل الله، خاضعين متذللين لله، رغبةً فيما عنده، لا يستبدلون بآيات الله ثمناً قليلاً من متاع الدنيا، أولئك الموصوفون بهذه الصفات لهم ثوابهم العظيم عند ربهم، إن الله سريع الحساب على الأعمال وسريع الجزاء عليها. (200) يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، اصبروا على تكاليف الشريعة، وعلى ما يعرض عليكم من مصائب الدنيا، وغالبوا الكفار في الصبر فلا يكونوا أشد صبراً منكم، وأقيموا على الجهاد في سبيل الله (ومنها المرابطة على الثغور وكذلك المرابطة في المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، واتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لعلكم تنالون مطلوبكم بالسلامة من النار ودخول الجنة.

[3] أم ظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم ابتلاء الماضين من قبلكم (من أتباع الرسل)، حيث أصابتهم شدة الفقر والمرض، وزلزلتهم المخاوف، حتى بلغ البلاء أن يستعجلوا نصر الله، فيقول الرسول والمؤمنون معه: متى يأتي نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب من المؤمنين به، المتوكلين عليه. (215) يسألك أصحابك أيها النبي: ماذا ينفقون من أموالهم المتنوعة، واين يضعونها؟ قل مجيباً إياهم: ما أنفقتم من خير – وهو الحلال الطيب – فليصرف للوالدين، وللأدنى منكم من قراباتكم بحسب الحاجة، وللمحتاج من اليتامى، وللمعدمين الذين ليس لهم مال، وللمسافر الذي انقطع به السفر عن أهله ووطنه. (وهنا جواب سؤالهم عن موضع الخير الذي ينفقونه) وما تفعلوا أيها المؤمنون من خيرٍ قليلاً كان أو كثيراً فإن الله به عليم، لا يخفى عليه منه شيء، وسيجازيكم عليه (قيل هي نفقة التطوع).

[4] ودخل الكافر حديقته في صحبة المؤمن ليريه إياها وهو ظالم لنفسه بالكفر وبالعجب، قال الكافر: ما أظن أن تفنى هذه الحديقة التي تشاهدها: لما اتخذت لها من أسباب البقاء. (36) وما أظن أن القيامة حادثةٌ، إنما هي حياةٌ مستمرةٌ، وعلى فرض وقوعها، فإذا بعثت وأُرجعت إلى ربي لأجدن بعد البعث ما أرجع إليه مما هو أفضل من حديقتي هذه، فكوني غنياً في الدنيا يقتضي أن أكون غنياً بعد البعث. (37) قال له صاحبه المؤمن وهو يراجعه في الكلام: أكفرت بالذي خلق أباك آدم من ترابٍ ثم خلقك أنت من المني، ثم صيرك إنساناً ذكراً، وعدل أعضاءك وجعلك كاملاً، فالذي قدر على ذلك، قادر على بعثك. (38) لكن أنا لا أقول بقولك هذا وإنما أقول: هو الله سبحانه ربي المتفضل بنعمته علينا، ولا أشرك به أحداً في العبادة. (39) وهلّا حين دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوة لأحد إلا بالله، فهو الذي يفعل ما يشاء وهو القوي فإن كنت تراني أفقر منك وأقل أولاداً. (40) فأنا أتوقع أن يعطيني الله خيراً من حديقتك، وأن يبعث على حديقتك عذاباً من السماء، فتصبح حديقتك أرضاً لا نبات فيها تزلق فيها الأقدام لملوستها. (41) أو يذهب ماؤها غائراً في الأرض فلا تستطيع الوصول إليه بوسيلةٍ، وإذا غار ماؤها فلا بقاء لها. (42) وتحقق ما توقعه المؤمن فأحاط الهلاك بثمار حديقة الكافر، فأصبح الكافر يقلب كفيه من شدة الحسرة والندم على ما بذل في عمارتها وإصلاحها من أموالٍ، والحديقة ساقطة على دعائمها التي تمّدد عليها أغصان العنب، ويقول يا ليتني آمنت بربي وحده، ولم أشرك معه أحداً في العبادة. (43) ولم تكن لهذا الكافر جماعة يمنعونه مما حلّ به من عقابٍ، وهو الذي كان يفتخر بجماعته، وما كان ممتنعاً من إهلاك الله لحديقته. (44) في ذلك المقام النصرة لله وحده (والتولي)، هو سبحانه خيرٌ ثواباً لأوليائه من المؤمنين، فهو يضاعف لهم الثواب، وخيرٌ عاقبةً لهم. (45) واضرب – أيها الرسول- للمغتريّن بالدنيا مثلاً، فمثلها في زوالها وسرعة انقضائها مثل ماء مطرٍ أنزلناه من السماء، فنبت بهذا الماء نبات الأرض وأينع، فأصبح هذا النابت متكسراً متفتتاً، تحمل الرياح أجزاؤه إلى نواح ٍأخرى، فتعود الأرض كما كانت، وكان الله على كل شيء مقتدراً، لا يعجزه شيء، فيحي ما شاء، ويفني ما شاء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑

%d مدونون معجبون بهذه: